عرق الفلاخ .. النخب الحلو في كؤوس التجار
بقلم محمود البرغوثيلماذا يبيع الفلاح كيلو الخضار والفواكه بأقل من تكلفة الإنتاج، ومع ذلك يصل إلى المستهلك بسعر يتراوح بين ثلاثة وخمسة أضعاف سعر البيع من المزرعة للتاجر؟
ولماذا يبيع مربيو الدواجن والأسماك والماشية كيلو اللحم من إنتاجهم بأقل من التكلفة الفعلية المرتفعة حاليا بفعل انفلات الدولار؟
العامل المشترك هو الخسارة للمزارع "سواء كان منتجا للأغذية النباتية، أو الحيوانية"، لكن الاختلاف هو أن تجار الحاصلات الزراعية الأوفر حظا، لأن الحكومة لا تضع نظاما لتسعيرها، لكنها تغمض عيونها عن مستوردي اللحوم بأنواعها المختلفة، فتكسر أيادي وظهور منتجي الدواجن والأسماك والماشية.
أما النتيجة فواحدة، الفلاح يضطر إلى بيع أرضه لتعليم الأولاد وتزويج البنات، فيما يبيع المربي مزرعته وبيته للإفلات من السجن، إذا استكفت ديونه من حصيلة بيع ممتلكاته الأصلية، وبالتالي سقوط مئات الآلاف من الفلاحين والمربيين سنويا أسفل خط الفقر، ودخول عشرات الأشخاص الجدد دائرة الثراء الفاحش.
خسائر الفلاح والمربي سببها الدولة، حيث لم تدعم الأول وتحمي بيع محصوله كما في جميع دول العالم، كما تركت الثاني فريسة للغلاء الفاحش الذي ضرب جميع مدخلات الإنتاج، سواء المستورد، أو المحلي، وليس في صناعة البروتين عنصرا محليا في الوقت الراهن سوى العمالة، في ظل إهمال زراعة الذرة الصفراء والصويا، وتبني برنامج بحثي طموح لرفع إنتاجية البرسيم والأعلاف الخضراء إلى الضعف، لتخفيف أسعار الأعلاف الحيوانية بعد تقليص استيراد خاماتها بالدولار، وإحياء مشاريع الإنتاج الحيواني.
ـ "اشتري فدانا مُنتِجا وفيلا بمائة ألف جنيه".
كان هذا الإعلان قبل نحو عشرة أعوام، دافعا لضخ تحويشة الغربة لكثير من المصريين، في عروق الصحراء المصرية، اعتمادا على موروث فلاحي عشناه، "فدان الأرض يستر عيلة"، تربية، وتعليما، وتزويجا، ومعيشة طيبة.
دراسات الجدوى لمن جازفوا بتحويشة العمر من الهجرة، لم تتعد حدود سؤال السابقين أهل التجربة: دخل الفدان في الصحرا كم؟
كانت الإجابة دائما: 4 آلاف جنيه لفدان الرمان أو الزيتون والبرتقال ومعظم الفاكهة، في العام الرابع (القيمة الإيجارية فقط)، و12 ألفا لما بعد العام السابع، محققا الإيجار، وجزء طفيف من ريع الأعوام الصفرية الثلاثة الأولى، ثم تتوالى الربحية، وكانت هذه النتائج مشجعة لخوض غمار التجربة.
أما تكاليف الزراعة، حتى قبل أربعة أعوام فقط، فكانت تتنامى بثبات طبيعي لزراعة الفدان، من متوسط ألفي جنيه في العامين الأول والثاني إلى 4 آلاف في السنة الرابعة، حيث بدأت بأسعار 750 جنيها لطن السماد الآزوتي المدعم، المسؤول عن النمو الخضري للشجرة، و3500 جنيه لطن سماد سلفات البوتاسيوم الداعم لصلابة الخشب، والمسؤول عن كبر الحجم وحلاوة الطعم للثمار.
زِد على ذلك 2800 جنيه لطن حامض الفوسفوريك، المهم لنمو الجذور وتقوية الخصوبة في الزهور، والمسؤول عن توفير الإشارة الكهربائية لدورة التغذية والبناء والهدم في النبات، وتلك هي العناصر الثلاثة التي لا غنى للنبات عنها (آزوت + بوتاسيوم + فوسفور)، ناهيك عن العناصر الصغرى المطلوبة لأي خلية حية، سواء نباتية أو حيوانية (حديد، زنك، منجنيز، بورون، مولبيدنوم)، إضافة إلى الضوء والماء.
الضوء هو العنصر الوحيد المجاني في مدخلات الإنتاج الزراعي المسؤول عن توفير الغذاء الكربوهيدراتي للنبات، أما تكلفة مياه الري فمرتبطة بمصدر الطاقة المتاح، والذي لم نكن نعرف منه سوى السولار، وكان سعره 80 قرشا للتر حتى منتصف 2014، ليقفز إلى 120 قرشا ثم إلى 180 قرشا، لترتفع تكلفة ري الفدان في الصحراء من نحو 600 جنيه في العام إلى أكثر من 1500 جنيه حاليا.
المثير حاليا، أن سعر طن الزيتون لم يتغير للمزارع، حيث بيع في نهاية موسم 2016 بالسعر الذي حققه في 2007، أي أربعة آلاف جنيه للطن، فيما تهاوت أسعار الرمان والموالح عن أسعارها السالفة بنسبة تصل إلى 50 %، في الوقت الذي قفزت فيه كل مدخلات الإنتاج إلى ما يفوق الضعف لمعظمها، خاصة الأسمدة المتخصصة والمبيدات ومصادر الطاقة، سواء سولار أو كهرباء.
المحير فعلا، أن الدولة لا تشجع زراعة الذرة الصفراء والصويا، اللتين تستورد منهما مصر سنويا سبعة ملايين طن للأولى بنحو 1.3 مليار دولار، و4 ملايين طن للثانية بنحو 1.5 مليار دولار، وفي هذا البند وحده ضمانة لحصد حسنات بالجملة للطرفين "الدولة والمُنتِج".
استمرار منظومة إنتاج الغذاء في مصر بهذا الفشل، سيؤدي إلى مزيد من هجر الزراعة والإنتاج الحيواني، وتلك غاية حفنة من التجار المصدرين والمستوردين، الذين يعتمدون في استثماراتهم على عقود مباشرة مع السوبر ماركت الأوروبي والأمريكي للبيع، ومجازر ومزارع أجنبية لاستيراد اللحوم والدواجن والأسماك.
لا أحد يعرف السر في عدم التوسع في إنشاء اتحادات نوعية لتشجيع التسويق التعاوني داخل مصر وخارجها، كي يستفيد المُزراع والمربي الصغير من الفارق الكبير بين سعر بيع محصوله أو إنتاجه، وسعر بيعه للمستهلك المصري، وإن كان اتحاد منتجي ومصدري الحاصلات البستانية التابع لوزارة الزراعة، قد شرع في تنفيذ تجربة مفيدة لتصدير إنتاج صغار المزارعين، لكنها غير كافية؟
المعضلة الحالية في المجتمع الزراعي، ليست في تراجع الإنتاجية فقط، بسبب أمراض الدواجن أو الماشية أو التربة، وغياب البرامج الإرشادية، وتراخي الدولة في حماية المُنتِج، بل تتضاعف المعضلة بتآكل رأس المال العامل، وضعف الإيمان بالزراعة، والإنتاج، وتسريح عمالة الإنتاج الحيواني (نحو 3 ملايين عامل)، ثم الهجرة من الريف إلى المدينة.
هذه الهجرة غير الحميدة تسببت في رؤية الفلاح المصري قد استقر به الحال مع أسرته في بدروم أو جراش عمارة (بواب)، فيكون نصيبه وزوجته مسح سيارات السكان وخدمة الشقق، بينما يتوزع الأبناء، بين بائع صحف، أو مناديل، أو ماسحا للأحذية شتاء، وبائعا للتين الشوكي والعرقسوس صيفا في شوارع القاهرة.
الحل المزدوج للمُنتِج والمستهلك، في دعم الإنتاج المحلي لتحجيم استيراد الغذاء، مع منظومة أهلية حكومية حمائية للمزارع والمربي، ينظمها القانون، مثل الصناديق النوعية الموسمية لحماية المنتجين، بحيث تحميهم من السقوط أسفل نقطة التعادل، وبالتالي تجنب المستهلك مغبة الاستغلال نتيجة التسعير العشوائي للمنتجات.