مقال اليوم بعنوان ( الفلاح المصرى بين الخنوع والثورة )
الأرض
يحمل هذه البلاد فوق رأسه، اذا انتعش حاله؛ انتعشت وحلت وازدهرت، واذا انتكس؛ انتكست وتدهورت وتأزمت، يجرى النيل من أجل سواعده، ولخاطر عيونه، ليروى أرض بر مصر فيخرج منها شتى أنواع الزروع والمحاصيل، إنه الفلاح المصرى الذى حارت العقول فى تحليل كينونته، وفى فهم أبعاد نفسيته؛ فهو طيب متوكل إلى حد السذاجة والبلاهة [ العبد فى التفكير والرب فى التدبير ] ، شرس إلى حد القتل [ اللى يفقع لى عين أفقع له اتنين ] ، كريم كأنه الريح المرسلة [ لاقينى ولاتغدينى] ، بخيل إلى حد الشُح [ اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع ] ، شهم يفديك بروحه اذا تطلب الموقف ذلك [ طلب الغنى شأفة كسر الفقير زيره ]، ندل إلى حد التنصل من أقرب الناس اليه عند الخطر [ اذا جالك الطوفان حط ابنك تحت رجليك] ، مؤمن يذكر الله فى كل تفاصيل حياته، حريص على النوافل قبل الفروض والسنن، نفعى ينظر إلى الدين من منطلق الفائدة !.
لكن تظل قضية التمرد والخنوع هى أبرز وأهم القضايا التى شغلت الباحثين والمحللين الذين تعرضوا لتاريخ الفلاح المصرى .
يرى ( أرنولد توينبى ) أن الفلاح المصرى على مر التاريخ كان ينظر إلى ممثلى السلطة وعلى رأسهم حاكم الدولة، نظرة اجلال بلغ فى أغلب الأحيان حد التأليه والتقديس!.
وفى التقرير الذى أعده ( جون يارونج) فى عهد محمد على أكد أن عادة الخنوع متجذرة فى شخصية الفلاح المصرى، حتى أنه يفضل الموت على أن يثور!.
ويرى ( بيوت بك ) بأن الفلاح المصرى خنوع أمام من هو أعلى منه الى حد اتهامه لنفسه، ويرجع السبب فى ذلك إلى مئات السنين من القهر والمعاناة!.
ويورد ( القريزى ) على لسان ( كعب الأحبار ) قوله: [ ان الله بعد أن خلق كل الأشياء، أعطى لكل شىء قريناً، قال العقل : إنى ذاهب إلى سوريا، فقالت الثورة :أنا ذاهبة معك، وقال الفقر: انى ذاهب الى الصحراء، قالت الصحة: وأنا أيضاً ذاهبة إلى هناك، ولما قالت الوفرة : إنى ذاهبة إلى مصر، وقالت السكينة: وأنا ساصحبك!] .
ويورد ( الجبرتى ) فى المجلد الثالث من عجائب الآثار [ واذا التزم بهم ذو رحمة ازدروه،واستهانوا به، وتمنوا زوال التزامه وولاية غيره من الجبارين!] .
وقد أيد هذا المنحى بقوة من المحدثين: أحمد لطفى السيد، الذى وصف المصريين بأنهم ينافقون الأقوياء، وأنهم خانعون يقبلون بالإهانة والتحقير وانهم يعبدون القوة، بينما نرى ( العقاد ) يفهم نظرة الفلاح المصرى من السلطة على أنها نظرة شك وريبة وتوجس وعدم اطمئنان، ولذلك لايميل إلى الثورة بمفرده الإ اذا رأى الجموع تهب كلها معه !.
ولكن التاريخ يقول بعكس ذلك كله، فلقد شهدت مصر ثورات فلاحية كثيرة ومتعددة؛ بدأت منذ عام 2280 ق م وفى عهد بيبى الثامن آخر ملوك الأسرة السادسة، حيث قامت ثورة عارمة شاملة ضد السلطة المركزية امتنع فيها الفلاحون عن دفع الضرائب،وهجموا على مخازن الحكومة ونهبوها، ومزقوا برديات القوانين وأحرقوا قصور الملك والأغنياء، وفتحوا قبورهم وبعثروا أشلاءهم!.
حدث ذلك مرات أخرى كثيرة فى عهد رمسيس الثانى حيث أضرب الفلاحون عن العمل فى المحاجر، وفى عهد رمسيس الثالث حيث توقفوا عن بناء المقابر الملكية بسبب قلة الطعام.
وطوال حكم البطالمة الاغريقيين لمصر الذى استمر 300 سنة، كانت هناك ثلاث ثورات تحريرية بقيادة أمراء طيبة.
وكانت المسيحية المصرية عبارة عن ثورة وطنية دائمة ضد حكم الرومان ( 30ق م ـ 640 م ) .
وفى فترة الولاة الأمويين، شهدت مصر ثورات فلاحية شاملة كادت احداها تقضى على جيش عبد الملك بن مروان.
وفى زمن العباسيين وفيما بين عامى 812 و 833 قامت ثورات فلاحية عديدة مما اضطر الخليفة المأمون أن يحضر بنفسه لاخماد واحدة منها والتى استمرت ثمانية أشهر!
وكانت هناك ثورات للمصريين ضد الفاطميين وخاصة فى زمن المستنصر.
وفى الفترة مابين 1805 ـ 1879 منذ حكم محمد على الى نهاية حكم اسماعيل يمكن عد خمس عشرة ثورة أو تمرداً قام بها الفلاحون بعضها كان هدفه اسقاط محمد على .
وتاريخ مصر الحديث هو حلقات متتابعة لانجاز الثورة الوطنية الديمقراطية، بدءً من الثزرة العرابية ومروراً بالنضال الوطنى بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد ثم ثورة 1919 وانتفاضة 35 وانتفاضات 46 و 50 ثم قيام ثورة 1952.
وقد اكتمل حلم الفلاح المصرى وشعر باستعادة بلاده وتتملكه لمقدراتها حيت تخلص من الحكم المباركى الفاسد فى ثورة يناير 2011 وتلاها بثوروة شاملة على الحكم الدينى الفاشى الفاشل فى يونيو 2013 ليبدأ عهداً جديداً من البناء الوطنى والنهضة العصرية الواعدة، على أن يظل محتفظاً بروح الثورة وشعلتها المتقدة فى جوانحه وأعماقه عكس مايروج لع أعداؤه من ميله إلى الخنوع والاستسلام!.