لماذا لا نزرع أخشاب الماهوجني والبلوط والـ ”تك” والحور والورد؟
ميزانيات تشجير مصر .. هدر مالي تذروه الرياح
كتب ـ محمود البرغوثي الجيزةالعنوان الفرعي لهذا التقرير، يطرح سؤالا مزمنا يحتاج إلى إجابة، في بلد تزيد أطوال الطرق المأهولة والمرصوفة فيه على 179.9 ألف كيلو متر خلال عام 2017/ 2018، وفقا لإحصائية الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة في 24 فبراير 2019، ولاتزال الأجهزة المحلية مكتوفة الأيدي والفكر عن استثمارها جماليا وماليا.
زراعة الفيكس والبازروميا والبونسيانا تستولي على ميزانيات تشجير فلكية، تقدر بعشرات الملايين سنويا، فيما يؤول ناتجها إلى لا شيء، كونها أشجارا لا تغني ولا تثمر، كما أن ظلالها ليست كافية لإحداث نتيجة إيجابية على الأسفلت الذي تقدر أعماره الافتراضية وفقا للاستخدام وعوامل البيئة أيضا.
وفي أوروبا والصين والولايات المتحد وأستراليا، عرفت هذه الدول قيمة التشجير منذ مئات السنين، ليس من أجل ثرواته الخشبية فقط، ولكن من أجل غنائم البيئية، التي منها على الأقل: امتصاص ثاني أكسيد الكربون وإخرج الأكسجين للجو، وبالتالي ترفع نسبة الأخير في الجو، وهو المقياس الحقيقي لسلامة البيئة من عدمها، حتى أن الصين خصصت أخيرا نحو 30 مليار دولار لرفع كفاءة التشجير في ولاياتها المختلفة.
وعودة إلى طرق مصر، وأطوالها الإجمالية البالغة نحو 180 ألف كيلو متر، أي 180 مليون متر طولي، فإذا أخذنا ربعها الذي ينقسم إلى اتجاهين بفاصل جزيرة وسطى، أي أنه سيتكاثر إلى أربع أطوال في الاتجاهين المتقابلين، ليتحول هذا الربع فقط إلى 180 مليون متر طولي تستوعب 90 مليون شجرة من أشجار الأخشاب الفاخرة، مثل: الماهوجني، والـ "تك"، والبلوط، والحور، والورد، وكلها أخشاب تزيد أثمان المتر المكعب منها على 25 ألف جنيه.
وبحسبة بسيطة، فإن شجرة الماهوجني وحدها، تصل إلى 30 مترا طوليا خلال فترة تتراوح بين 12 و15 عاما، وبمتوسط قطر يبلغ 0.5 متر، أي 50 سنتيمترا، ومعنى ذلك أن الشجرة الواحدة ممكن أن تعطي أخشابا صالحة للاستخدام لا تقل عن 10 أمتار مكعبة، بقيمة لا تقل عن 200 ألف جنيه.
5.5 مليون فدان في الوادي والدلتا تستوعب 100 مليون شجرة ماهوجني
وإضافة إلى الطرق بأطوالها الخرافية، تأتي الرقعة الزراعية، سواء القديمة في الوادي والدلتا، أو الصحراوية والمستصلحة، ومساحتها لا تقل حاليا عن 8.5 مليون فدان، منها خمسة ملايين فدان قديمة على الأقل مقسمة ومشرحة بفعل المواريث بترع ومساق صغيرة، ومحاطة بالصفصاف والكافرو والكازورينا، التي فرضتها عادات قروية وفلاحية قديمة، لم تكن تعرف الأشجار الخشبية ذات القيمة العالية، كما كانت تستخدم أخشابها في تعريش الحظائر والبيوت الشعبية، وهذه المساحة وحدها تستوعب أكثر من 100 مليون شجر جديدة بالإحلال التدريجي.
وإذا ما انتقلنا إلى الصحراء، فثقافة الزراعة الصحراوية قائمة على مصدات الرياح، لذا لم تكن تعرف غير أشجار الكازورينا التي تُزرع على مسافات ضيقة ومتداخلة لإنشاء سور مانع للرياح، ومع مرور السنوات يتحول إلى كارثة حشرية، حيث يعد مصيدة للعديد من الآفات التي تصيب الزراعات، كما أن انتشار جذوره افقيا يقضي على الصف القريب منه لمسافة لا تقل عن 6 مترات.
وفي حالة استبدال الماهوجني بالكازورينا، فأمام مصر فرصة أيضا لإضافة ما لا يقل عن 100 مليون شجرة جديدة، لتشكل المجموعات الثلاثة ثروة تقدر بنحو 300 مليون شجرة، بعيدا عن الغابات الشجرية التي تملكها وزارات: الزراعة، والبيئة، والسكان، والتنمية المحلية.
ثقافة الغابات الشجرية وحدها، كفيل بحلول اقتصادية وبيئية جبارة، وتظل الإرادة الحكومية هي الموجه الأساسي لميزانيات التشجير نحو إحداث نهضة بيئية ومالية واجتماعية، من خلال خلق فرص عمل حقيقية، وحقن المليارات التي تنفقها على الدولة على استيراد الأخشاب جيدة الصناعة.
مبادرة العناني: سأعيش ما بقي من عمري لتعميم زراعة الماهوجني في مصر
هذه الثروة المالية توازيها قيم مضافة أخرى، تتعلّق بالإصحاح البيئي، وتخفيض فاتورة العلاج من أمراض الحساسية والربو، إضافة إلى كونها مصدرا للظل على الأسطح الأسفلتية، التي تقيها حرارة الشمس المباشرة، وبالتالي تطيل أعمار الطبقة الأسفلتية، وفقا لدراسة أجراها الدكتور عبد المنعم العناني، صاحب مبادرة "زراعة الماهوجني" في مصر.
يقول الدكتور عبد المنعم العناني، وهو طبيب بيطري، ويعمل عضوا منتدبا لأكبر شركة متخصصة في الإنتاج الداجني والزراعي في مصر، إنه سيعيش ما بقي له من عمره، داعما، وناشرا، لثقافة زراعة الماهوجني في مصر، لما يرى فيه من خير وفير لهذا الوطن، وهو الذي بادر بإنشاء مشاتل لتربية "الماهوجني" واستئناس أصنافه التي تصلح للزراعة في مصر، إضافة إلى غيره من الأخشاب الفاخرة.
طاف العناني كثير من الدول الأوروبية، والولايات الأمريكية، وصور أشجار الماهوجني، والورد، والبلوط والورد، ويتعجب لماذا تُحرَم مصر من هذه النعمة الربانية، التي تساهم في خفض الانبعاثات الحرارية إلى الغلاف الجوي، لغطائها الأخضر الكثير، كما تغذي البيئة بالأكسجين الذي هو وقود الحياة الصحية، إضافة إلى وقايتها الأبنية السكنية والحكومية من شرور البرد والشرد، أي أنها تقلص ميزانيات التبريد صيفا، والتدفئة صيفا، بنسبة لا تقل عن 40%.
ولا تقف فوائد الماهوجني عند هذه الميزات فقط، بل تساهم من خلال جذرها الوتدي العمودي في تدعيم الأبنية، حيث تعمل كخوازيق طبيعية أقوى من الأسمنتية حول الأبنية، وبالتالي حمايتها من الاهتزازات الناجمة عن سير النقل، وفي النهاية، عندما يحين قطع الشجرة، تتحول إلى ثروة اقتصادية هائلة.
الدكتور عبد المنعم العناني يتساءل دائما عن قيمة أو جدوى التشجير بأشجار الفيكس، أو البازروميا، أو حتى البونسيانا أو الأكاسيا ذات الألوان الجاذبة، لافتا النظر إلى أن أشجار الماهوجني تعطي ألوانا بنسفجية خلابة لقمتها النامية المتجددة دوريا، كما أن أشجار الورد تشتهر بألوانها الجاذبة، وأخشابها ذات الرائحة الذكية، كما يُصنع منها الأثاث الفاخر، والتحف الفنية، وقطع الشطرنج النادرة، والعود الشرقي.
ما يدعو للغرابة، استمرار المحليات، وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، في تشجير الطرق المضافة التي تشق الصحاري، بأشجار لا قيمة لها، وتنفق فيها ميزانيات تُحسب في باب التجميل.
الحل ليس بعيدا عن الإمكانيات المصرية، ففي قسم الأشجار الخشبية، داخل معهد بحوث البساتين التابع لمركز البحوث الزراعية، جهود طيبة لاستئناس الماهوجني الأفريقي، الذي يصلح للبيئة المصرية، كما أن مشاتل الدكتور عبد المنعم العناني بدأت في مبادرة تعميم الماهوجني منذ ما يزيد على عشرة أعوام، ولا يتبقى سوى لفت نظر المسئولين عن المحليات، والطرق التابعة لوزارة النقل والمواصلات، إلى ضرورة توظيف ميزانيات التشجير، فيما يؤتي أكله بعدة قيم مضافة، وليست قيمة واحدة تتمثل في العود الأخضر الريان لشجرة عديمة القيمة.
ووفقا لرؤيا العين على امتداد ترع ومصارف وبحور مصر، فإن هناك مئات الآلاف من المشاتل غير المرخصة، والتي تتبع الوحدات المحلية، ولا تملك وزارة الزراعة قرارا بإصدار تراخيص لها، ويمكن تحويلها ـ إذا أرادت الدولة، إلى مشاتل نظامية للأشجار الخشبية النافعة، لإمداد كل من يحتاج زراعة فسيلة نافعة للأجيال القادمة من بعده.
فشجرة واحدة كفيلة بإحداث نقلة نوعية من عتبة الفقر إلى دائرة الستر.. فهل هناك من يسمع؟