في عزاء يوسف والي: شهادة علمية في صفحة ”العدالة الناجزة”
بقلم: محمود البرغوثىشوف يا سيدي، وأقسم بالله أن هذه الرواية صادقة بنسبة تقترب من التمام.
- كنتُ في زيارة للفقيد الأستاذ الدكتور يوسف والي، ذات يوم منذ نحو 5 أعوام في شقته في الطابق رقم 9 من "بناية والي"، في حي العجوزة - أسفل كوبري أكتوبر، وكنتُ في معية شقيقه الأصغر الأستاذ الدكتور ماهر والي العميد الأسبق لزراعة الأزهر.
- تحدثنا كثيرا، حتى انكسر حاجز الخجل والرهبة، فسألتُ سؤالا حسبته "صاعقة":
* سيادة النائب: لماذا اتهموك بسرطنة الحياة ولم تبرئ نفسك بتصريح، أو لماذا لم تسمح بكتابة مذكراتك كشاهد على عصر طويل وحافل؟
- في إشارة واحدة مزدوجة، رفع الرجل رأسه وسبابته إلى سقف الصالة، قائلا بصوته الخفيض: الله عنده البراءة.
* كصحفي، تحينت فرصة إحداث ثقب في جدار الصمت، ورددت بسؤال آخر، موجها سؤالي إلى الدكتور ماهر؟
- وما المانع في تبرئة عائلة كاملة .. إذا كان سيادة النائب لا يكترث، فلديكم أجيال ستلاحقها التهمة؟
** بدا أن السؤال ضرب رأس الدكتور ماهر، فأفاقته صدمة الضربة، وهنا نظر لسيادة النائب نظرة من يستعطف أبا، وقال له: الرجل مننا (يقصد العبد لله)، تسمحلي أجاوبه على السؤال الأول؟
- بعد أخذ ورد حانيين، وافق الدكتور يوسف بإيماءة معروفة، فتنفس الدكتور والي حتى عبأ صدره بشهيق عميق، كأنه شحن صدره وعقله وقلبه، وبدأ في السرد.
* اسمع يا سيدي: كما تعلم أن الرئيس مبارك كان يحب سيادة النائب جدا، وكان الوحيد من بين الوزراء الذي يحظى بلقب "سيادة النائب" عند المناداة من "سيادة الريس"، وجميع الوزراء والزملاء والتلاميذ.
- كان الدكتور يوسف والي، يرحمه الله، قد طلب مني عدم نشر هذا الحديث، ولأن الوفاء بالعهود لا يبطله الموت، فليس من حقي أن أسرده حتى من باب إنصافه، وتزكية روحه الطاهرة، من باب "العدالة الناجزة".
لكن ما يمكن نشره، يتعلق بالشهادة العلمية، حيث اتهم الرجل بسرطنة الزراعة والحياة، ومن الأمانة أن يتصدى كل عارف بالعلوم والكيمياء والزراعة لهذه الاتهامات المغرضة، والتي كان هدفها سياسيا، وليس إنسانيا ولا متعلقا بصحة العباد.
يستطرد الدكتور ماهر والي:
ولعلك تذكر أيام انتشار المغص المعوي، وتحويل الكثير من الحالات إلى المستشفيات، بعد تناول البطيخ، كما أن السمية كانت خفيفة مع الكانتلوب، لأن الأخير والشمام لديهما فجوة عصارية تتجمع في ثمرتيهما العصارة بمتبقياتها من المبيدات أو الكيماويات.
قلت له نعم أتذكر جيدا، لكننا لم نكن نعرف السبب، وأيامها ظهرت بوادر تصريحات صحافية وإعلامية بأن السبب هو معاملة البطيخ بمبيدات محظورة مسرطنة.
* نعم .. كان سيادة النائب قد سمح باستيراد مبيد سام جدا لمقاومة دودة القطن التي استفحل أمرها في هذه الأيام، واسمه "تيميك"، وكانت الدودة تهدد عرش القطن المصري، وكان المبيد قد وصل فعلا، وأمرت الوزارة - ممثلة في لجنة مبيدات الآفات - بتسجيله كمبيد سام خاص بالقطن فقط، وكتبت بخط واضح على الملصق الخاص بعبوته: "يُمنع استخدامه خارج إطار الجمعية الزراعية"، كما كتبت على الملصق الخاص بالعبوة، أن فترة ما قبل الحصاد 180 يوما، وأوصت بوضعه مع البذرة أثناء الزراعة، حيث تستمر سميته 180 يوما، لوقاية أوراق القطن واللوزة الخضراء من الآفة المدمرة.
واستطرد الدكتور ماهر شارحا: وكما تعرف، فإن القطن محصول نسيج، ولا يؤكل، لكن بذرته كانت تُعصَر كزيت طعام، و"تًفلته" تدخل في صناعة العلف الحيواني "الكُسْب"، لذا جاءت التوصية بعدم رش التيميك على أي محصول، مع إضافته مع شتلات الموز أيضا في يومها الأول لإبادة "النيماتودا" الفتاكة، كون الموز يُنتِج "سباطته" الأولى بعد عام كامل من الشتل، وبالتالي يتخطي المحصول ضِعف فترة الأمان.
- وكما تعلم أيضا: فإن كل مبيد سام وقاتل، وإلا ما كانت هناك فائدة من تصنيعه لإبادة الآفات، وأن لكل مادة سامة فترة أمان معلومة تتكسر فيها داخل الخلية النباتية، لذا كانت توصيات "التيميك" واضحة جدا، بعدم استخدامه لغير القطن والموز وفق شرط (فترة أمان 180 يوما).
- وبعد نجاح التيميك نجاحا منقطع النظير في إبادة دودة القطن، أوراق ولوزة، ونجاحه أيضا في تطهير أرض الموز من النيماتودا، كسر المزارعون حائط الممنوع، وحصلوا على المبيد من الجمعيات الزراعية، بالمخالفة للقانون ونظام العمل، واستخدموه في مقاومة النيماتودا التي تهدد محصول البطيخ.. وكما تعلم فإن عمر البطيخ كله 100 يوم (من الزراعة حتى الحصاد)، كما أن 99٪ من نسيجه عبارة عن مياه، وهي عصارة تحتفظ بتركيز عال من المبيد عالي السمية، فكان كل من يأكله، يتعرض للمغص المعوي، وتلك كانت المادة الذهبية لحملة سياسية مغرضة على سيادة النائب، استُخدِمت فيها الصحف القومية والمستقلة والحزبية المأجورة، إلى جانب التلفزيون المصري، وامتدت إلى منابر خطبة الجمع، واستأجرت بعض الصحفيين الأحياء حاليا، ومنهم من يشتهر بالإفك والنفاق والرخص والتلون، بأجر، وبدون أجر.
** تلك كانت القصة، منقوصة لعدم الإطالة، وقد حاولتُ جاهدا، تنحية المشاعر والإثارة العاطفية، حتى مع مشهد موت رجل أقل ما يوصف به فعلا: "راهب الزراعة المصرية".
* ويظل السؤال المحير: هل يُعقَل أن يمر خبر وفاة "يوسف والي" على جدران وردهات قصر وزارة الزراعة، دون بيان لتأبينه؟
** الإجابة على لسانه يرحمه الله: فوضت أمري للذي خلقني .. فاطر السموات والأرض.