التطبيع مع إسرائيل .. التجربة المصرية (2-2)
جمال عنقرةذكرت في ختام مقال السابق أن ما قال به الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات عن عدم قدرته لمواصلة الحرب مع أمريكا لأكثر من عشر سنوات، وعدم رغبته في إستمرار تقديم التضحيات نيابة عن العرب، قال مثله الإسلاميون الذين كانوا يحكمون في زمن الإنقاذ، إلا أن الحاكمين من الانقاذيين لم يبلغوا درجة شجاعة وجسارة ابن خالتنا الرئيس السادات، فقالوها علي استحياء وتركوا التفصيل للأخ الأستاذ الشريف حسين خوجلي، صاحب الألوان، وأيام الإيقاع، وذات الشئ قال به حكام اليوم، ومثلما كانت أمريكا هي القائد الفعلي للتطبيع المصري الذي كان لقاؤه الأشهر في (كامب ديفيد) فإن أمريكا أيضا كانت مهندس التطبيع السوداني الإسرائيلي، ومسألة التعويضات التي بموجبها تم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لم تكن إلا حجة مصنوعة، فقيمة الغرامة كانت تافهة، ومع ذلك لم تدفعها حكومة السودان رغم أن الحكومة قالت أنها قد جنبت قيمة الغرامة، ولكن دفعها عنها ولي العهد السعودي، سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وردت إليها بعد يومين فقط في شكل منحة، فهي لم تكن سوي مدخل ومسوق لتمرير التطبيع شعبيا وسياسيا في السودان، وقد كان.
ولذات الأسباب التي حرصت بها إسرائيل ومن ورائها أمريكا علي التطبيع مع مصر، سعت أيضا للتطبيع مع السودان، وللسودان ومصر رمزية لا تتوفر عند غيرهما من الدول العربية والإسلامية، وكنت قد أشرت في مقال الأمس إلى رمزية المقاومة التي تتجسد في مصر والسودان، ولئن كانت مصر أكثر دولة واجهت إسرائيل عسكريا، فإن السودان أكثر دولة واجهت إسرائيل شعبيا وإعلاميا. مصر استطاعت أن تستوعب واقع بلدها وشعبها في التعاطي مع إسرائيل، وهذا ما لا يبدو واضحا حتى الآن في السودان، فمصر التي طبعت علاقتها مع إسرائيل منذ سبعينيات القرن الماضي، لا تزال هذه العلاقة تقف عند حدودها الدبلوماسية والحكومية علي مستوي جهات محددة، بينما في السودان، وقبل الإعلان الصريح للتطبيع بدأت جهات رسمية وشعبية تفتح نوافذ تعامل مع إسرائيل، لدرجة أن بعض الناس شرعوا في تنظيم رحلات سياحية إلى إسرائيل، ولعل هؤلاء لا يعلمون أن فنادق مصر التي تتجاوز عشرات الآلاف لا يوجد من بينها عشرة فنادق تستقبل الإسرائيليين، هذا باستثناء الفنادق العالمية، بل إن المجتمع المصري يرفض التعامل معهم تماما، والذين شاهدوا فيلم (السفارة في العمارة) يكونون قد لاحظوا ذلك، وفي نهاية الفيلم خرج الشعب كله يهتف (مش هنطبع، ومش هنبيع) وعندما عرض الفيلم اول مرة في دور العرض السينمائي في مصر خرج كل المشاهدين بعد الفيلم يهتفون (مش هنطبع مش هنبيع) وأذكر مرة كنت أشتري بعض الأغراض من مكتبة تعودت أن اشتري احتياجاتي منها في شارع إبراهيم اللقاني في ميدان روكسي بمصر الجديدة، وهي فضلا عن جودة حاجاتها، تجذبني إليها رقة ولطف، صاحبها، وفي ذاك اليوم قام أحد الزبائن بشراء بعض الأدوات، وأثناء الحساب طلب من صاحب المكتبة سحب واحد منها، وكان هذا أمرا طبيعيا يحدث في كل المحلات، ولكن فجأة انتفض صاحب المكتبة وهاج وماج، ورفض أن يبيع للزبون أي شئ، ودخل في حالة هستيرية، فخرج الزبون، ولما هدأ صاحب المكتبة سألته عن سر غضبه، فقال لي (إنت مش شايف ولا ايه؟ ده يهودي) وكان سبب الهياج أنه شاهد نجمة داود علي يده، وهكذا يتعامل المصريون مع الإسرائيليين، وتقدر الحكومة المصرية هذا الشعور الفطري المغروس في نفوس كل شعب مصر، فلا تستفزهم، ولا تفرض عليهم ما لا يطيقون، ولا يرد اسم إسرائيل في الصحافة والإعلام المصريين، ولعلم الذين لا يعلمون فإن كل الفصائل الفلسطينية موجودة في مصر، بما في ذلك حركة حماس، وكانت مصر قد رعت الحوار بين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين، ولا تزال مصر أما للجميع، وتقود النضال لمصلحة الشعب الفلسطيني، ولم يثنها التطبيع مع إسرائيل عن مواصلة قيادتها وريادتها للقضية الفلسطينية، وهذا ما يجب ألا يغيب عن الحكومة السودانية، وأتابع هذه الأيام أحاديث طيبة عن دولة قطر الشقيقة، وحدث ذلك بالطبع بعد زيارة النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الفريق الأول محمد حمدان دقلو (حميدتي) للعاصمة القطرية الدوحة، فلم تكن هذه الأقوال الإيجابية في حق قطر والقطريين متاحة قبل زيارة حميدتي، ولم تكن زيارة السيد حميدتي ممكنة قبل مشاركة العاهل القطري في القمة الخليجية الأخيرة في السعودية، وهذا منهج تفكير عليل.
أذكر عندما كنا ندرس الزراعة في مصر في سبعينيات القرن الماضي، كنا نتحدث عن تقدم المنهج الإسرائيلي في دراسة الزراعة، وكلية الزراعة عندهم ثماني سنوات، وكانوا قد أدخلوا الري بالتنقيط قبل أن يسمع به الناس في مصر والسودان، ومع ذلك لم تفكر مصر، ولا أي مصري في نقل التقانة الزراعية، أو أي تقانة أخري من إسرائيل إلى أرض الكنانة، ولكنهم ظلوا يعملون ليل نهار لتطوير ما عندهم مستندين علي خبرات آلاف السنين في الزراعة، وفي أذهانهم أرض مصر يهبط لها الناس منذ آلاف السنين لأن فيها ما يسألون، ومن عجب أن تتحدث حكومتنا الآن عن الإستفادة من التقانة الإسرائيلية في الزراعة، فعن أية تقانة يتحدثون، وكيف يستفيدون منها، وهناك إشارة مفخخة وردت في هذا الحديث (إسرائيل تمتلك الخبرات والتقانة، ونحن نمتلك الأرض) فهل يعني هذا أن شراكة سودانية إسرائيلية سوف تقوم، نشارك فيها بالأرض، ويشاركون بالخبرات والتقانة، ومتى سيخرجون بعد ذلك، إن كانوا سيخرجون.
إن الطريقة التي يدار بها ملف العلاقة مع إسرائيل محفوفة بالمخاطر، ولو سارت علي هذا المنوال سوف تدخلنا في (شؤون وطرائق) وقبل أن يقع الفاس في الرأس يجب مراجعة هذا الملف كله، قبل أن يصير وباء علي بلدنا وشعبنا، والله المستعان.